الشيخ إمام.. الإبداع المهمل!
الشيخ إمام.. الإبداع المهمل!
الموضوع منقول و لكن أحببت وجوده بين صفحاتهنا لأن هذا الموقف الذي ستقرأونه للأسف يتكرر يوميا و بشكل واسع جدا ليس فقط بالنسبة للشيخ إمام و لكن لكافة الفنانين الأصيلين الذين افتقدهم الفن و لن يأتي لهم بديلا يوما.
في الكتابة عن الشيخ إمام آثرت قبل
الشروع بالكتابة استعادة الإصغاء لبعض أغانيه، بالإضافة إلى الإتكاء على الذاكرة،
ورحت أتوجه بسؤالي إلى محلات بيع الأشرطة، وقد هوّن عليَّ مالقيه بن عبد ربه
الأنلسي في زيارته لحمص، مالقيته في المواقع التي قصدتها. في المحل الأول الذي
قصدته، كان البائع رجلاً مسناً، يقف متكئاً على واجهة المحل، بادرته «هل لديك
أشرطة للشيخ إمام» قال على الفور «لم أسمع بهذا الشيخ من قبل، لدينا أشرطة للشيخ
عبد الباسط عبد الصمد، وأخرى للشيخ محمود خليل الحصري». وأمّا المحل الثاني، وكان
يضج بالموسيقى الأجنبية الصاخبة، ويقف داخله شاب في العشرينات من عمره، يربط شعره
المرسل الطويل بقطعة من المطاط، وفي فمه علكة يفرقع بها بين فينةٍ وأخرى، وكان
مشغولاً، يتثنى هامساً لإحدى الفتيات، ودون أن يلتفت إليّ، أجابني «الأشرطة
الدينية لا يوجد إقبال عليها هنا، لذا لانقتنيها» قالها مسرعاً وكأنه يدفع عن نفسه
تهمةً شائنة، وأما ثالث فتساءل مستغرباً «هل هذا مطرب جديد صاعد؟». قلت، لا، بل هو
قديم ظل يصعد ويطوف الوطن العربي بسجونه وساحاته، كفيفاً، مستهدياً الطريق بعيون
«الشقيانين والغلابى»، وانتهى به التجوال ميتاً، في غرفة كئيبة في حي الغورية في
7/7/1997، وقد مضى على وفاته عدة أيام ولم يدرِ به أحد. أرهقني السؤال عن أعمال
إمام في السوق، فرحت أوجه بحثي في اتجاه آخر، صوب أولئك النفر، أو بقايا المحاربين
القدماء، الذين مازالوا يتنكبون بنادقهم، ويحلمون بغدٍ أفضل، كذلك الجندي الياباني
الذي عثر عليه في الغابات بعد مرور سنوات على نهاية الحرب العالمية الثانية، وقد
تعايش مع وحوش الغابة وحشراتها، يقتات عشبها، ضبط ولا يزال يقبض على بندقيته ويهتف
«تحيا اليابان». بصعوبة استرجعت اسم وعنوان ذلك الرجل في مخيم اليرموك، وكان قد
دعا الشيخ إمام إلى بيته في مطلع الثمانينات، ليلتقي به بعض «الغلابة» ممن حرموا
مشاهدة حفلة الشيخ التي أقامها في إحدى صالات دمشق آنذاك، إذ يجدر الذكر أن الصالة
اكتظت بجمهور غفير من عشاق فن الشيخ إمام، وقبيل الشروع بالحفلة جاءه من يهمس له
«يا شيخ إن عدداً كبيراً من محبيك يقفون بالباب، لم يتمكنوا من الحصول على بطاقات
للدخول». فمال الشيخ على الدكتورة نجاح العطار، وكانت تشغل منصب وزيرة الثقافة،
وهمس لها ببضع كلماتٍ فسمح لكل من كان خارج الصالة بالدخول وراح يكرُّ شريط
الذكريات؛ مئات الأغاني، عشرات الأشرطة، ثلاثون عاماً ونيف من العطاء الفني الجاد
المتواصل. عشرات الحفلات المجانية،وأخرى خصص ريعها لصالح المقاومة والجمعيات
الخيرية، لذلك الفنان الكفيف، والذي أبصر ما عمي عنه غالبية ساسة العرب ومثقفيهم،
إنه منذ انطلاقه تجاه الغناء، وبعد أن كان مقرئاً عادياً للقرآن الكريم، وعقب
هزيمة حزيران سنة 1967، حيث ارتفعت أصوات الجماهير محطمة الأغلال، مطالبةً بالتوقف
عند الأسباب التي أدت إلى تلك الهزيمة التي لم تزل الأمة تدفع ضريبتها حتى يومنا
هذا، انطلق صوت إمام معلياً صرخة الشعب وقناعته «ماتقوليش... وماتقوليش.. حرب
الشعب وغيرها مافيش» وذلك رداً على من همشوا الشعب وقدموا سيناريو حرب صورية
كاذبة، لم تفلح رغم نتائجها المأساوية المدمرة في إحباط الشعب المؤمن بقضيته، ولم
تنجح في اقحام الهزيمة في الروح العربية، بل قامت الجماهير تكسر الأغلال وتطالب
بمحاسبة المتسببين بتلك الهزيمة، ولقد شكل الثنائي الفنان إمام عيسى والشاعر أحمد
فؤاد نجم ظاهرةً إيجابية ترافقت مع المد النضالي الذي شهدته الساحة العربية،
وتصاعدت مع حالة النهوض، ورغم العوائق والعقبات التي اعترضت مسيرة النضال تلك. فقد
استمرت تلك الحالة في التصاعد والتنامي، معززة باحتضان الجماهير لها، ولاسيما طلبة
الجامعات، فقد كانت تلك التجربة الفنية أقرب إلى الناس وفي قلوبها، فأخذت جموع
«الغلابة» تدافع عن الثنائي كجزء حقيقي من ذاتها، وتراثها، وراحت جموع الطلبة
تحملهما على الأكتاف، تدخلهما عنوة رحاب الجامعة، متحدية كل مناوئ. ولاغرابة في
الأمر، ونحن نرى تلك التجربة الفنية الرائدة، تعيش حياة هذه الأمة، انتصارات ـ على
قلّتها ـ ، وانكسارات وخيبات أمل، وما من خيبة عانتها الأمة إلا ووجدت صداها
دموعأً، وسخرية مرة تنهمر من شفاه الثنائي، وما من محطة مضيئة في عقدي السبعينات
والثمانينات من القرن المنصرم، إلا وراح إمام يتغنى بها مشيداً، لقد حمل الثنائي
على الفاسدين والمترهلين فكانت سخريتهم، من أولئك الضباط الذين أثروا على حساب
الشعب، وتزايدت امتيازاتهم لأمجاد وأوسمة كاذبة، فكانت أغنية «يامحلا رجعة ضباطنا
من خط النار» أشبه بنشيد شعبي، يحفظه طلبة الجامعات في مصر عن ظهر قلب، رداً
وتعبيراً عن سخط الجماهير العربية على هزيمة حزيران ومسببيها، رغم أن تلك الأغنية
أثارت أيضاً غضب الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، لقد تعرض الثنائي للسجن وتقييد
الحرية أكثر من مرة، ولكن السجن لم يثنهما، عن مواصلة تعرية وفضح الفساد ومواجهته،
والتغني بالبطولة والمواقف البناءة. ومن طريف ماذكر، أن الشيخ إمام ـ ومع بداية
استعادة الجندي العربي لصورته في حرب الاستنزاف ـ أخذ على الشاعر أحمد فؤاد نجم
إعطاءه كلمات أغنية «دولا مين... دولا مين / دولا عساكر مصريين» للفنانة الراحلة
سعاد حسني وكانت وجهة نظر إمام أنه من حقه وحده أن يغني تلك الكلمات التي تشيد
ببسالة الجندي العربي، لا أن تعطى لممثلة تتغنى بها وتتثنى على إيقاعها.
لقد تنوعت وتعددت المواضيع التي طرقتها
أغنية إمام، في الجوانب الاجتماعية والوطنية والإنسانية ويتضح الناظم في ذلك
التمدد الأفقي والشاقولي، أن المنطلق والغاية هي الإنسان والدفاع عنه، عن كرامته،
عن حريته، وقدر ما كانت أغاني الشيخ مشحونة بالألم والمرارة، فقد حملت بمجملها
قبسة من ضياء ونبضة من أمل. ومثلما قرع المتسببين بهزيمة حزيران، شحذ العزيمة ونشد
الأمل وخاطب الغد «اصحى.. اصحى.. طال النوم وأمك قمر وأبوك نجوم / اصحى يا أجمل
مولود» وراح يعبر عن الفرح الإنساني بانتصار الفيتناميين على العدوان الأمريكي،
معبراً عن البهجة بسقوط «سايجون» آخر معاقل أعداء الإنسانية «أبجد هوز... حطي كلمن
/ اكتب زي الناس ما تنطق / سقطت سايجون... رفعوا العلمن» ولم يغفل إمام عينه عن
هموم الوطن والأمة، ولعل الجرح العميق الذي تركته اتفاقات كامب ديفيد على الشعب
العربي في مصر والأمة جمعاء، قد أصاب من إمام مقتلاً، حيث وجد الشعب ذاته غريباً
عن أمته، غريباً عن نفسه، مغلولاً باتفاقات لم يستشر بها، ولم يوافق عليها، فكان
لابد من رتق المسافات وردم الهوة وترميم الجسور التي تهدمت، فراح الشيخ إمام يردد
في كل بلد عربي يزوره أغنيته الشهيرة «يا عرب في كل مصر / اسمعوا صوت شعب مصر /
احفظوا لمصر المكان / واحنا على سالعهد اللي كان / مصر أوفى م الزمان / وأنتو
عارفين شعب مصر». ونحن لو تأملنا جداول الحزن المنسابة في تلك الأغنية نصاً ولحناً
وأداءً. لشعرنا أن إمام كان يعبر عن ضمير ووجدان الشعب العربي في مصر، ذلك الشعب
الوفي الذي اعتادته أمته عصياً على الركوع وفياً لمبادئه وأمته، فكانت أغنية إمام
وكأنها اعتذار ووعد بالمستقبل فلنتأمل المقاطع التالية:
« اللي خانوا العهد بينا / واستباحوا كل
حاجة / واستهانوا بالعروبة واستكانوا للخواجة / مستحيل حيكونوا منا / احنا حاجة
وهمّا حاجة / همّا باعوا الجلابية والوطن والبندقية / واحنا أصحاب القضية .. احنا
ما بنبعش مصر» أليس هذا هو الشعب العربي في مصر، بعيداً عمن ضلوا الطريق ونكثوا
بعهد الوفاء، وهانت عليهم كرامتهم وكرامة أمتهم، ورغم أن بوصلة القلب لا تخطئ،
لابد من التذكير بالثوابت بين فنية وأخرى، لعل غافلاً يصحو وفي غمرة النفاق، ودخان
الأكاذيب. تغدو مهمة المبدع كذلك الحكيم اليوناني «ديوجينيس» الذي كان يشعل مصباحه
في رابعة النهار، فالعودة إلى الجذور، وتظهير البديهيات يغدو ضرورة تمليها وتحتمها
معالجة الانهيار ومواجهة المرتدين. وفي المقطع التالي من نفس الأغنية السابقة
نلمح/
«سينا.. ولا يافا... ولا حيفا ولا دير
ياسين / اسألوا الشمس اللّي هاله عاللي صحيوا مبدرين / يزرعوها لوز وغلّة ... دول
جدودنا ولا مين» ومع كل هذا السواد، ووعورة الطريق، فلابد من مخرجٍ في نهاية
النفق، مهما احلولكت الظروف وادلهمت الليالي ولنقرأ « يطلع الدجال بزيفه يملأ وادي
النيل ضباب / ينزل الجلاد بسيفه يزرع الموت والخراب / يطول الليل زي كيفه الصباح
له ألف باب» وهكذا فلابد لليل من آخر، ولابد أن ينجلي فجر النصر والحرية.
لقد وعى الشيخ إمام ضرورات ومرتكزات
الأغنية الوطنية الشعبية، فابتعد بنصوصه المختارة عبر تعاونه مع الشاعر أحمد فؤاد
نجم، عن وعورة النص ومعجميته، وترفع عن تسطيحه، وأدخل إلى الأغنية كل مايلزم
لإغنائها وتقريبها إلى ذاكرة الناس ومداركهم، دون إغفال المستوى الفني الذي ينبغي
للأغنية أن تحافظ عليه، وألا تنحدر دونه، مستخدماً السخرية، عبر الحركة والصوت
والجملة الموسيقية. واشتراك الحضور في الأغنية، ونتذكر هنا أغنية «شرفت يانيكسون»
التي استقبل بها إمام الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون ـ حامل لقب صاحب فضيحة
ووترغيت/ ورغم فضيحته، فقد استقبل بحفاوة من قبل «سلاطين الفول والزيت» وقد استخدم
إمام قدرته العالية على السخرية بضحكته الهازئة تارة، وطوراً بالاستعاضة بصوته
ودندنته بدلاً من الموسيقى، كتعبير أكثر قرباً وأعمق دلالة، ولنتأمل كلمات
الأغنية:
« شرفت يا نيكسون بابا... يابتاع الوتر
ـ غيت / عملولك قيمة وسيما... سلاطين الفول والزيت / عزموك فقالوا تعالى... تاكل
بمبون وهريسة / واما أنت لانك هايف... صدقت انو احنا فريسة / طبيت لحقوك بالزفة...
ياعريس الغفلة يا خفة / هات وشك خذلك تفه.. شوبش من أصحاب البيت» إن الشيخ إمام
قدّم على مدار ثلاثين عاماً ونيف، عدداً كبيراً من الأغاني الوطنية الملتزمة، شارك
المناضلين نضالهم وشاطرهم عذابات السجن، وتقدم المقاتلين فشاركهم الخط الأمامي ـ
ومن ينسى أغنيته «يا فلسطينية وأنا بدي أقاتل معاكو» ـ ومع كل هذه الرحلة7، نجد أن
هذا الفنان، تجهله أجيال نهايات القرن الماضي، ومطلع القرن الحالي، وكأنما أصبح
قدراً على الفنان الملتزم قضايا أمته، أن يكون نصيبه الإهمال والتنكر له وغبنه
حياً وميتاً، أيعقل أن يتضور أحدهم من الجوع ويعاني العوز هو وأسرته طوال حياته،
ولا يجد من يتذكره إلا بعد الموت، حين يمر عام أو أكثر على ذكرى وفاته فأي تكريم
رخيص هذا وأي وفاء نزعمه، أيعقل أن يبقى حال المبدع الملتزم كما وصفه المرحوم
الشاعر نزار قباني:
يهبوننا الفرح الجميل وحظهم حظ البغايا ما لهنّ ثواب
إلى متى هذه المهزلة؟ إنه سؤال تثيره
ذكرى رحيل الشيخ المرحوم إمام عيسى.
رد: الشيخ إمام.. الإبداع المهمل!
عدل سابقا من قبل yasser في 8/23/2010, 3:14 am عدل 1 مرات
yasser- عضو ذهبي
- عدد المساهمات : 677
التقييم : 0
تاريخ التسجيل : 29/05/2010
العمر : 48
الموقع : baw7.rigala.net
بطاقة الشخصية
اليوم:
رد: الشيخ إمام.. الإبداع المهمل!
رد: الشيخ إمام.. الإبداع المهمل!
الذي هدر الزمان والعروبة حقه
اسمح لي بأن اضيف بعد موضوعك الجميل والشيق هاتان الإنيتان ليتاح لمن لم يتعرف الشيخ الامام من قبل ان يتعرفه من صوته الاصيل
اناديكم
يا عرب
جزيل شكري لك ولتميزك وباقة عطرة من الياسمين
ehab-alkhtep- عضو
- عدد المساهمات : 34
التقييم : 0
تاريخ التسجيل : 26/08/2010
العمر : 41
رد: الشيخ إمام.. الإبداع المهمل!
تقبل مروري
fadi jafar- عضو
- عدد المساهمات : 21
التقييم : 0
تاريخ التسجيل : 28/08/2010
6/23/2012, 5:23 am من طرف Sarah
» تحليل سياسي اذاعات مسؤلين!!!!!!
5/17/2012, 10:49 pm من طرف Eihab
» العنكبوت
5/16/2012, 12:50 am من طرف Eihab
» نصائح من ستيفين كوفي
5/11/2012, 8:46 pm من طرف Eihab
» طاغور
5/11/2012, 8:30 pm من طرف Eihab
» الخير والشاي
4/25/2012, 3:48 am من طرف Eihab
» بيضة والببسي
4/24/2012, 10:26 pm من طرف Eihab
» الوعي الكوني
4/24/2012, 10:19 pm من طرف Eihab
» معنى المرأة
4/14/2012, 8:35 pm من طرف Eihab
» رغبات وخيال
4/9/2012, 11:26 pm من طرف Eihab
» كراكيب المنزل
4/8/2012, 9:42 pm من طرف Eihab
» فزلكة
4/8/2012, 8:23 pm من طرف Eihab
» لا استطيع
4/8/2012, 5:31 pm من طرف Eihab
» ولد شاطر
4/8/2012, 2:19 am من طرف Eihab
» جسم الإنسان يستطيع إعادة بناء الأعضاء
4/8/2012, 2:01 am من طرف Eihab
» القراءة السريعة
4/8/2012, 1:52 am من طرف Eihab
» ما يحس
4/8/2012, 1:26 am من طرف Eihab
» أريد أن أكون تلفازاً..!
4/8/2012, 1:20 am من طرف Eihab
» ولد شاطر
4/7/2012, 3:15 am من طرف Eihab
» العسل
11/10/2011, 5:45 am من طرف hiba