أسباب نشوء الحياة الاجتماعية



من القضايا الأساسية التي لا بدّ من دراستها وبحثها وتحليلها تحليلاً علميّاً، هي مسألة نشوء المجتمع والحياة الاجتماعية بما فيها من تعقيدات وتركيب وعلائق، ومعرفة دوافعها وأسبابها .
ولكي نتعرّف على النظرية الإسلامية في نشوء المجتمع وتكوّن الحياة الاجتماعية، فلنقرأ ما ورد من آيات تحدّثت عن مسألة الاجتماع ودعت الى بناء المجتمع، الإنساني وصياغة حياة الفرد ضمن التشكيل الاجتماعي العام على اُسس ومبادئ راسخة وثابتة، نذكر منها :
قوله تعالى : (يا أيُّها النّاس إنّا خلقناكم من ذكر واُنثى وجعلناكم شعوباً وقبائلَ لتعارفوا إنّ أكرمكم عندَ اللهِ أتقاكم ). (الحجرات / 113)
وقوله : (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّة ورحمة إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون ). (الروم/ 21)
وقوله سبحانه : (أهم يقسمون رحمة ربِّك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدّنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتّخذ بعضهم بعضاً سخريّاً ورحمة ربّك خير ممّا يجمعون ).(الزخرف/ 32)
إنّ دراسة وتحليل هذه الآيات تشخِّص لنا دوافع وأسباب نشوء المجتمع، وتلك الأسباب هي :
1 ـ العنصر الأساس في البناء الاجتماعي هو قانون الزوجيّة
الطبيعي العام المتمثِّل في التركيب الغريزي للمرأة والرّجل، فهما عنصرا البناء الاجتماعي وأساس البنية الحيوية من الناحيتين العضويّة والنفسيّة .
إنّ هذه العلاقة الغريزيّة التي تسعى غائيّاً لحفظ النوع وتدفع بالجنس بدافع اللّذّة والمتعة، تقوم في جانبها النفسيّ والإنساني على أساس الودّ والرحمة وتوفير الطمأنينة (السكن) .
وبذا اعتبر القرآن المرأة قاعدة السكن، عبر الاستقرار النفسي والاجتماعي للرّجل والحياة الاجتماعية بأسرها، ذلك لانّ الاشباع النفسي من حب الجنس الأخر والغريزي الجسدي منه ينتج عنه افراغ حالة التوتّر النفسي والعصبي وملء الفراغ النفسي وتصريف الطاقة الغريزية والنفسية لتحقيق مبدأ الاتزان لدى الجنسين القائم على أساس التكامل من خلال قانون الزوجيّة الكوني العام .
من هنا تتحدّد مسؤوليّتها الكبرى في بناء المجتمع السوي السليم نفسيّاً واجتماعيّاً ووظيفيّاً ; لأنّها مصدر السكن والودّ والحنان والرحمة في الحياة الاجتماعية .
2 ـ التعارف : أمّا الدافع الثاني الذي دفع الإنسان لتكوين الحياة الاجتماعية، فهو عنصر التعارف بين أبناء النوع البشريّ القائم على أساس غريزة حب الاجتماع التي عبّر عنها الفلاسفة بقولهم : «الإنسان مدنيّ بالطّبع» .
فقد أثبتت التجارب النفسية والاجتماعية أنّ الإنسان لا يشعر بالاستقرار والراحة ولا تكتمل انسانيّته إلاّ بالاجتماع، وبالعيش مع الآخرين، فهو يشعر بحاجة نفسيّة ماسّة وعميقة إلى الآخرين، لذلك قال تعالى : (لتعارفوا )، فعبارة التعارف تعبِّر عن الدافع الإنساني الكامن وراء الاجتماع، وتكوين المجتمع البشري .
3 ـ تبادل المنافع : والسّبب الثالث من أسباب بناء المجتمع، هو تبادل المنافع المادية المختلفة، فقد شاء الله سبحانه أن يتكامل الأفراد بقابليّاتهم وطاقاتهم الفكرية والجسدية والنفسية، ويتحقّق هذا التكامل عن طريق تبادل المنافع بين الأفراد.
فللفرد حاجات ومتطلّبات متعدِّدة، ليس بوسعه أن يوفّرها جميعها لنفسه؛ لذا فهو يحتاج الآخرين ويحتاجونه، وهذا الاختلاف في القابليّات الذي ينتج عنه الاختلاف في نوع الانتاج والخدمات التي يستطيع أن يوفّرها الفرد للاخرين، وتبادل تلك المنتجات والمنافع والخدمات لاشباع الحاجات هو الّذي عبّر عنه القرآن بقوله : (ورفعنا بعضهم فوقَ بعض درجات ليتّخذ بعضهم بعضاً سخريّاً )(1).
وعلى هذا الأساس نشأت الوظيفة الاجتماعية، وفسّر مبدأ النشوء الوظيفي في المجتمع لتتكامل الحياة كما تتكامل أجهزة البدن في أداء وظائفها .
وهكذا يوضِّح القرآن دوافع نشوء المجتمع، الإنسانية والمادية، وفي كلّ هذه العناصر يبرز دور المرأة واضحاً وأساسيّاً، سواء في جانبه المادي أو النفسي أو الوظيفي في الحياة الاجتماعية؛ فهي الجزء الأكبر من المجتـمع، فإنّ الإحصـائية السـكانية تفيـد أنّ عدد الإُناث في المجتمع البشري يزيد على عدد الذكور .
وانطلاقاً من نظرية التكامل الوظيفي التي وضّحها القرآن آنفاً في المجتمع، يُدرس دور المرأة في بناء المجتمع كما يُدرس دور الرّجل على حدٍّ سواء ضمن أطر الإهداف والقيم الإسلامية، وليست المرأة عنصراً ثانويّاً ولا وجوداً اضافيّاً على الرغم من التجربة البشرية التي تثبت أنّ دور الرّجل في بناء العلم والاقتصاد يتفوّق كثيراً على دور المرأة ، كما أنّ دورها في تكوين القاعدة النفسية لبناء الاُسرة أكبر من دور الرّجل الذي عبّر عنه القرآن بقوله : (وخلق منها زوجها ليسكن اليها )، فالزوج هو الذي يسكن الى الزوجة، ويستقرّ بالعيش معها، فهي مركز الاستقطاب اطار الاستقرار والودّ والمحبّة .
ويتحدّث القرآن عن (السكن) في مواضع عديدة، ومن خلال ذلك نستطيع أن نفهم معناه الذي توفّره الزوجة لزوجها، نفهمه من خلال قوله تعالى : (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّة ورحمة ) وقوله: (وجعل منها زوجها ليسكن إليها ).
ونفهم قيمة (السكن) في الاجتماع عندما نعرف أنّ القرآن وصف العلاقة بين الزّوج والزّوجة بأنّها علاقة (سكن وودّ ورحمة) .
وإذن فلنقرأ كلمة (سكن) في مواضع عدّة من القرآن، لنعرف دلالتها الاجتماعية والاُسريّة، قال تعالى : (جعل لكم اللّيل سكناً ) أي يسكن فيه النّاس سكون الرّاحة (2) . وقال تعالى : (صلِّ عليهم انّ صلاتك سكن لهم ) أي إنّ دعواتك يسكنون اليها، وتطمئن قلوبهم بها، والسكينة فعيلة من السكون، يعني السكون الذي هو وقار، لا الذي هو فقد الحركة (3).
(هو الّذي أنزل السّكينة في قلوب المؤمنين )، أوجد الثبات والاطمئنان (4).
وأوضح اللّغويّون معنى (السكن) بقولهم : «... وسكن الريح : هدأت. وسكن النّفس بعد الاضطراب : هدأت. وسكن النفس اليه : استأنس به، واستراح اليه... والسّكن : المسكن، وكل ما سكنت اليه، واستأنست به، والزّوجة والنّار (5) والرحمة والبركة والقوت» .
«السكينة : الطمأنينة والاستقرار والرّزانة والوقار»(6).
وهكذا نفهم معنى(السكن)الذي توفِّره الزّوجة لزوجها وأسرتها،وهو:الرّاحة والاستقرار والاستئناس والرّحمة والبركة والوقار،كما نفهم سر اختيار القرآن لهذه الكلمة الجامعة لمعان عديدة .
ولقد أثبتت الدراسات العلمية أثر الوضع النفسي والعصبي للانسان على مجمل نشاطه في الحياة، فمن الثابت علميّاً أنّ المسؤولية الاجتماعية، مسؤولية العمل والانتاج المادي: الزراعي والصناعي، والعمل السياسي والاجتماعي والوظيفي والخدمي في المجتمع: كالادارة والأعمال الهندسية والتعليم والطبّ والتجارة والفن ... الخ، التي يقوم بها كل من الرجل أو المرأة تتأثّر بشكل مباشر بأوضاعهم النفسية، فالرّجل الذي يعيش في وسط المشاكل العائلية والتوتّر النفسي والعصبي ينخفض إنتاجه المادي، كما يتأثر إقباله على العمل والابداع في أعماله الخدمية أيضاً، وتزداد مشاكله في علاقاته مع رفاقه في المعمل والمرتبطين به، وبذا تساهم طبيعة العلاقات الزوجية بين الرّجل والمرأة في مستوى الانتاج والتنمية بانعكاس آثارها النفسية والعصبية على طاقة الإنسان ونشاطه اليومي وعلاقته بالانتاج والعاملين معه .
وليس هذا فحسب، بل وتساهم الأم في تطوير المجتمع وبنائه فكريّاً وماديّاً وأخلاقيّاً من خلال تربية الأبناء وتوجيههم، فالطفل الذي ينشأ بعيداً عن القلق والتوتّر والمشاكل العائلية ينشأ سويّ الشخصية ايجابيّاً في علاقاته وتعامله مع الآخرين وعطائه الاجتماعي، بخلاف الطفل الذي ينشأ في بيئة عائلية تضجّ بالمشاكل والنزاعات والتعامل السيّئ مع الطّفل، فانّه ينشأ عنصراً مشاكساً، وعدوانيّاً في سلوكه وعلاقاته، لذا فإنّ معظم حالات الأجرام والتخريب في المجتمع سببها التربية المنحطّة .
وهناك مساحة أخرى من مساحات البناء الاجتماعي تساهم فيها الأم كما يساهم الأب، هي مساحة التربية الإيجابية، فالطّفل الذي يُنشّأ على حبّ العمل، والحفاظ على الوقت، ويوجّه توجيهاً مدرسيّاً سليماً من خلال العائلة، فيواصل تحصيله الدراسيّ وينمي مؤهّلاته الخلاّقة، يكون عنصراً منتجاً من خلال ما يحصل عليه من خبرات واختصاص علمي وعملي. بخلاف الطّفل الاتِّكاليّ الكسول الذي لا يحرص أبواه على توجيهه نحو العمل والإنتاج، فانّه يتحوّل الى عالة على الآخرين، وتتسبّب الأعداد الهائلة من تلك العناصر في تخلّف الإنتاج وركود الحياة الاجتماعية والاقتصادية والعلمية .
وهكذا تترابط حلقات البناء بين التربية والتنمية والإنتاج والأخلاق واستقرار المجتمع، ويبرز دور المرأة في البناء الاجتماعي في هذه المجالات كلّها .