بوح الخواطر
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

أم سَعد

2 مشترك

اذهب الى الأسفل

أم سَعد Empty أم سَعد

مُساهمة من طرف Eihab 10/8/2010, 3:33 am

أم سَعد

1969



الإهداء

إلى أم سعد ، الشعب والمدرسة.

غ.ك.



مدخل







( أم سعد امرأة حقيقية ، اعرفها جيداً، وما زلت أراها دائماً، و أحادثها و أتعلم منها، وتربطني بها قرابة ما، ومع ذلك لم يكن هذا بالضبط ، ما جعلها مدرسة يومية ، فالقرابة التي تربطني بها واهية إذا ما قيست بالقرابة التي تربطها إلى تلك الطبقة الباسلة ، المسحوقة والفقيرة والمرمية في مخيمات البؤس ، والتي عشت فيها ومعها ، ولست أدري كم عشت لها.

"إننا نتعلم من الجماهير، ونعلمها" ومع ذلك فأنه يبدو لي يقيناً أننا لم نتخرج بعد من مدارس الجماهير، المعلم الحقيقي الدائم، والذي في صفاء رؤياه تكون الثورة جزءاً لا ينفصم عن الخبز والماء وأكف الكدح ونبض القلب.

لقد علمتني أم سعد كثيراً ، وأكاد أقول أن كل حرف جاء في السطور التالية إنما هو مقتنص من بين شفتيها اللتين ظلتا فلسطينيتين رغم كل شيء، ومن كفيها الصلبتين الصلبتين اللتين ظلتا، رغم كل شيء، تنتظران السلاح عشرين سنة.

ومع ذلك فأم سعد ليست امرأة واحدة، ولولا أنها ظلت جسداً وعقلاً وكدحاً، في قلب الجماهير وفي محور همومها وجزءاً لا ينسلخ عن يومياتها، لما كان بوسعها أن تكون ما هي، ولذلك فقد كان صوتها دائماً بالنسبة لي هو صوت تلك الطبقة الفلسطينية التي دفعت غالياً ثمن الهزيمة.

والتي تقف الآن تحت سقف البؤس الواطئ في الصف العالي من المعركة ، وتدفع ، وتظل تدفع أكثر من الجميع)





غسان كنفاني



في البداية لن ننسى أن نشكر رفيقي العزيز من غزة (يبوس) الذي تفضل بطباعة عدد من روايات وقصص ومسرحيات الشهيد الراحل غسان كنفاني ...



1-

أم سَعد

والحرب التي انتهت





كان ذلك الصباح تعيساً. وبدت الشمس المتوهجة وراء النافذة وكأنها مجرد قرص من النار يلتهب تحت قبة من الفراغ المروع، كنا نطوي أنفسنا على بعضها كما تُطوى الرايات. وفجأة رأيتها قادمة من رأس الطريق المحاط بأشجار الزيتون، وبدت أمام تلك الخلفية من الفراغ والصمت والأسى مثل شيء ينبثق من رحم الأرض. قمت ووقفت أمام النافذة المشرعة وأخذت انظر إليها تمسي بقامتها العالية كرمح يحمله قدر خفي.

وجاءت زوجتي ووقفت إلى جانبي ونظرت إلى الطريق، ثم قالت لي: "ها هي أم سعد، وقد جاءت".

مثل دقات الساعة جاءت. هذه المرأة تجيء دائماً، تصعد من قلب الأرض وكأنها ترتقي سلماً لا نهاية له، وقالت زوجتي فيما نحن نحصي خطواتها: "ترى..كيف تشعر أم سعد الآن؟".

وقلت لنفسي: "لست أدري" وكنت أنتظرها لا تعلم شيئاً، فوراء ظهورنا تراكمت دروع الجنود المحطمة فوق الرمل المهجور، وشقت طوابير النازحين مسافات جديدة.

كنت اسمع هدير الحرب من الراديو، ومنه سمعت صمت المقاتلين، وهو يتكئ على الطاولة ورائي ينوح مثل أرملة، ويطلي بصوته المهزوم كل أشياء الغرفة بالتفاهة: المكتبة، والمقعد، والزوجة، والأطفال ، وصحن الطعام، وأحلام المستقبل، ويجعل الحبر بلا لون.

وقالت زوجتي: لقد اختفت أم سعد منذ تفجر القتال. وها هي تعود وكأنما على إيقاع الهزيمة..لقد قاتلوا من أجلها وحين خسروا خسرت هي مرتين، تراها ماذا ستقول الآن؟ لماذا تجيء وكأنها تريد أن تبصق في وجوهنا ؟ كيف تراها رأت المخيم حين غادرته هذا الصباح؟.

وظلت الأسئلة معلقة في الهواء، كما لو أنها الغبار الذي لا يرسو، وكدت أراها، مسننة ومدببة وذات رؤوس كالشفرات تسبح في تلك الحزمة الفضية التي كانت تصبها أشعة الشمس في قلب الغرفة، فيما كانت أم سعد ترقى الطريق نحونا، تحمل الصرّة الصغيرة التي تحتفظ بها دائماً، وتسير عالية كما لو أنها علم ما، تحمله زنود لا تُرى.

ودخلت أم سعد، ففوحت في الغرفة رائحة الريف، وبدت لي كما كانت قبل عشرة أيام فقط! يا الهي كم تتغير الأمور وكم تتهدم الصروح في عشرة أيام! وضعت صرتها الفقيرة في الركن، وسحبت من فتحتها عرقاً بدا يابساً، ورمته نحوي:

- "قطعته من دالية صادفتني في الطريق، سأزرعه لك على الباب، وفي أعوام قليلة تأكل عنباً".

- ودورت العرق الذي بدا خشبه بنية داكنة لا تنفع شيئاً بين أصابعي، وقلت لها:

- " أهذا وقته يا أم سعد؟ ".

وأخذت تعيد ربط شالها الأبيض حول رأسها، كما تفعل دائماً حين تكون منصرفة إلى التفكير بشيء آخر، وقالت:

- " قد لا تعرف شيئاً عن الدالية، ولكنها شجرة عطاءة لا تحتاج إلى كثير من الماء. الماء الكثير يفسدها..تقول: كيف؟

أنا أقول لك. إنها تأخذ ماءها من رطوبة التراب ورطوبة الهواء، ثم تعطي دون حساب.

قلت:

- " قضيب ناشف ".

- " انه يبدو كذلك، ولكنه دالية ".

- " هذا ليس مهماً..".

قالت فجأة:

- " انتهى الأمر، أليس كذلك؟"

- " بلى ".

- " وأنت تقول ذلك ".

- واستدارت ، ومضت إلى الشرفة فلحقت بها بخطوات بطيئة، وسألتها:

- " كيف كان المخيم اليوم؟ ".

- وفجأة نظرت إليّ، وبدت لي القصة كلها على جبينها الذي له لون التراب، ثم فرشت كفيها أمامي:

- " بدأت الحرب بالراديو وانتهت بالراديو، وحين انتهت قمت لأكسره، ولكن أبا سعد سحبه من تحت يدي. آه يا ابن العم! آه! ".

واتكأت على حاجز الشرفة، وأخذت تنظر إلى حقول الزيتون المطلة على مدارج التلة، ثم سحبت يدها فوقها جميعها وقالت:

- " والزيتون لا يحتاج إلى ماء أيضاً ، انه يمتص ماءه عميقاً في بطن الأرض، من رطوبة التراب ".

ثم نظرت إليّ:

- لقد ذهب سعد ولكنهم امسكوه، ومنذ يومين كنت اعتقد أنه يحارب. هذا الصباح عرفت أنه كان محبوساً ، يا للعار.

كنت أقول لنفسي: لو مات..

وصمتت فجأة.

- كيف عرفت أنه محبوس؟.

- صباح الاثنين سمعنا الراديو، فحمل أغراضه وجمع رفاقه وطلعوا من المخيم كالعفاريت. أقول لك أنني لحقت به. أخذت طريقاً مختصراً وقابلته قرب مدخل المخيم وأسمعته كيف أزغرط. وقد ظل يضحك حتى اختفى عن أنظاري..ولكن يا حسرة! لم يصل. حبسوه.

- والآن؟.

- ذهب المختار ليرى. مرَّ عليَّ في الصباح وقال لي: لا تخافي يا أم سعد. سأعود لك به. الأهبل، يعتقد أن هذا ما أريده..الأهبل، يعتقد أن ذلك ما يريده سعد. أتعرف؟ سيعود المختار في الليل ويقول لي: ابنك ولد شقي، أخرجته من الحبس فهرب مني نحو الجبل وقطع الحدود..

- يقطع الحدود إلى أين؟.

وبدا لي أنها أشارت بذراعها إلى جهة ما، ثم ارتدت الذراع كأنما من تلقائها، وأخذت تدور حول نفسها، تشير إلى كل شيء، وأخذت أحصي الأشياء التي أشارت إليها الذراع السمراء: المكتبة والمقعد والأطفال والزوجة وصحن الطعام وأنا.

ولأول وهلة لم أصدق، وبدت لي حركة ذراعها وكأنها رمز لشيء شديد التعقيد، لا يمكن أن يرقى إليه عقلها البسيط وعدت أسأل:

- يقطع الحدود إلى أين؟

وشهدت في ركن شفتيها تلك الابتسامة التي لم أرها قط على وجهها، والتي صار يتعين علي منذ الآن أن أراها هناك دائماً، منذ هذه اللحظة، تشبه رمحاً مسدداً، وهذه المرة لم تحرك ذراعها، وقالت:

- كأنك لا تعرف! كأنك لا تعرف! نعم..يقطع الحدود إلى أين؟ هكذا تسأل، هكذا يسألون..لماذا لم تتناول فطورك؟.

وفاجأني السؤال، فالتفت إلى حيث كان الطعام ينتظر منذ ساعتين شهية محكمة الرتاج، كأنها باب أغلق إلى الأبد ولحم مصراعيه صدأ الهزيمة المرة التي لها طعم الذل..وعادت أم سعد تقرع ذلك الباب مرة أخرى:

- لماذا لم تتناول فطورك؟ أنا لم أتناول فطوري أيضاً، أنتظر شيئاً ما يفتح شهيتي ليس للأكل فحسب، ولكن للحياة أيضاً ..أتصدق؟ ليس ثمة من يستطيع أن يفعل ذلك إلاَّ سعد.

وصمتت قليلاً، ثم همست كأنما لنفسها:

- أتعرف؟ إذا عاد سعد إلى البيت الليلة، إذا عاد، فلن أستطيع تناول الطعام..أتدرك الآن لماذا يتوجب عليه أن يقطع الحدود؟

وعاد ذراعها مرة أخرى يشير إلى تلك الحدود، ويدور فوق المكتبة والمقعد والأطفال والزوجة وصحن الطعام وأنا، ثم ظل مصوباً نحوي، مشدوداً كأنه جسر أو حاجز، وسألت:

- وأنت؟ ماذا ستفعل يا ابن العم؟ عشرون سنة مضت و أمس تذكرتك وأنا اسمع في الليل أن الحرب انتهت ، وقلت لنفسي، يجب أن أزوره ، ولو كان سعد هنا لقال لي: هذه المرة دوره هو أن يزورنا..فهل ستفعل؟.

ولم تنتظر جوابي. عادت إلى الغرفة فرفعت عرق الدالية عن الطاولة وأخذت تتأمله كأنها تراه تلك اللحظة للمرة الأولى.

وخطت ببطيء نحو الباب الآخر وهي تقول:

- سأزرعه، وسترى كيف يعطي عنباً، هل قلت لك انه لا يحتاج إلى الماء، وانه يعتصر حبات التراب في عمق الأرض ويشربها؟

وبدت لي وهي تمشي عبر الممر شيئاً شامخاً عالياً، كما كانت تبدو دائماً، ولست ادري لماذا أخذت أفكر بالمختار الذي ذهب يسعى لإطلاق ابنها من الحبس، فسألتها:

- هل قال لك المختار كيف سيفك سعد من الحبس؟

ومن آخر الممر التفتت إلي، وكانت تبدو أمام الباب المفتوح عملاقاً يدخل مع ضوء الشمس، لم اكن لأستطيع أن أرى وجهها بوضوح ، ولكنني سمعتها تقول:

- أما زلت تفكر بالمختار؟











- " ألم أقل لك؟ ".

كان ذلك أول ما قالته أم سعد صباح اليوم التالي، وقد جاءت مبكرة كالعادة، وكنت قد نمت متأخراً، ولكنها لم تنتظر ، ففاجأتني في الفراش، ومضت تقول:

- " ألم اقل لك أن لا تفكر بالمختار؟ أتعرف ماذا حدث؟.

ذهب وأراد أن يأخذ من كل واحد منهم توقيعاً على ورقة يتعهدون فيها أن يكونوا اوادم، ولكنهم رفضوا وطردوه "

- من هم؟

- سعد ورفاقه. قال لي المختار انهم ضحكوا عليه، وان سعد سأله: "شو يعني اوادم؟ " قال المختار انهم كانوا محشورين في زنزانة، وانهم اخذوا يضحكون جميعاً، وان شخصاً لا يعرفه كان بينهم قال له: " اوادم يعني قاعدين عاقلين؟ " فقال رجل ثالث: " يعني ناكل كف ونقول شكراً؟ " وان سعد قام وقال له: " يا حبيبي ، اوادم يعني بنحارب، هيك يعني هيك "..

كانت تتوهج بسعادة غامضة، وجلست على الكرسي وقالت:

- يخزي العين عليهم! كان المختار يحكي لي القصة وكنت اضحك بعبي، وقلت له اخيراً: " مليح اللي ما ضربوك، احمد ربك عالسلامة! " فزعل.

- ورفضوا توقيع التعهد؟

- طبعاً رفضوا..قالوا للمختار " راحت عليك " ، وقد زعل، خصوصاً حين سألهم المختار إن كانوا يريدون شيئاً من المخيم فقال له سعد: " سلم عالأهل يا ابني ".

فزعل لأنه اكبر من سعد، من جيل أبيه، وقال لي إن سعد لم يحترمه، وانه قال له "يا ابني "، كأنه ولد..

- وماذا قلت أنت للمختار؟

- قلت له إن سعد قلبه أبيض، وانه حين قال له يا ابني فهو لم يقصد أهانته، كل ما قصده أن الدور الآن دوره..

- يا أم سعد! أردت تكحيلها فعميتها.!

- أنا؟ أنا قصدت ذلك قصداً..

- والآن ماذا سيفعل سعد؟ ألم يكن خروجه من السجن أفضل؟

وقفت، ونظرت إلي واضعة تلك الابتسامة على ركن شفتيها، وقالت:

- طيب! أنت غير محبوس، فماذا تفعل؟

وكانت الصحف ملقاة على الأرض، والراديو الذي تركته في الليل مفتوحاً أخذ يتلو نشرة الأخبار، وكانت أم سعد تنظر إليّ تارة واليه تارة أخرى، وبدت لي نظراتها، وهي تنتقل مني إليه، إنما تمد بيننا قضبان حديد تعجز كفاي عن هزها، ثم قالت:

- أتحسب إننا لا نعيش في الحبس؟ ماذا نفعل نحن في المخيم غير التمشي داخل ذلك الحبس العجيب؟ الحبوس أنواع يا ابن العم! أنواع! المخيم حبس، وبيتك حبس، والجريدة حبس، والراديو حبس، والباص والشارع وعيون الناس..أعمارنا حبس، والعشرون سنة الماضية حبس، والمختار حبس..تتكلم أنت على الحبوس؟ طول عمرك محبوس..

أنت توهم نفسك يا ابن العم بأن قضبان الحبس الذي تعيش فيه مزهريات؟ حبس، حبس، حبس. أنت نفسك حبس..فلماذا تعتقدون أن سعد هو المحبوس؟ محبوس لأنه لم يوقع ورقة تقول انه آدمي..آدمي؟ من منكم آدمي؟ كلكم وقعتم هذه الأوراق بطريقة أو بأخرى ومع ذلك فأنتم محبوسون..

قمتُ، وكانت ترتجف، لا شك أنها كانت المرة الأولى التي رأيتها فيها مجتاحة بمثل ذلك الغضب، قلت لها:

- هدئي أعصابك يا أم سعد..أنا لم أقصد شيئاً.

وبهدوء قالت:

- كل واحد يقول الآن " أنا لم أقصد شيئاً "..فلماذا يحدث كل الذي يحدث؟ لماذا؟ لماذا لا يتركون الطريق للذين يقصدون؟ لماذا أنت لا تقصد شيئاً؟

ثم اقتربت مني.

- اسمع..أنا أعرف أن سعد سيخرج من الحبس. الحبس كله! أتفهم؟

-2-

خيمَة عن خيمَةٍ تفرق







أم سعد، المرأة التي عاشت مه أهلي في " الغبسية " سنوات لا يحصيها العد، والتي عاشت، بعد ، في مخيمات التمزق سنوات لا قبل لاحد بحملها على كتفيه، ما تزال تأتي لدارنا كل يوم ثلاثاء: تنظر إلى الأشياء شاعرة حتى أعماقها بحصتها فيها، تنظر إليّ كما لابنها، تفتح أمام أذني قصة تعاستها وقصة فرحها وقصة تعبها، ولكنها أبداً لا تشكو.

إنها سيدة في الأربعين، كما يبدو لي ، قوية كما لا يستطيع الصخر، صبورة كما لا يطيق الصبر، تقطع أيام الأسبوع جيئة وذهاباً، تعيش عمرها عشر مرات في التعب والعمل كي تنزع لقمتها النظيفة، ولقم أولادها.

اعرفها منذ سنوات. تشكل في مسيرة أيامي شيئاً لا غني عنه، حين تدق باب البيت وتضع أشياءها الفقيرة في المدخل تفوح في رأسي رائحة المخيمات بتعاستها وصمودها العريق، وببؤسها وآمالها، ترتد إلى لساني غصة المرارة التي علكتها حتى الدوار سنة وراء سنة.

آخر ثلاثاء جاءت كعادتها، وضعت أشياءها الفقيرة واستدارت نحوي:

- يا ابن عمي، أريد أن أقول لك شيئاً. لقد ذهب سعد.

- إلى أين؟

- إليهم؟

- من؟

- إلى الفدائيين.

وسقط صمت متحفز فيما بيننا، وفجأة رأيتها جالسة هناك، عجوزاً قوية، اهترأ عمرها في الكدح الشقي. كانت كفاها مطويتين على حضنها، ورأيتهما هناك جافتين كقطعتي حطب، مشققتين كجذع هرم، وعبر الأخاديد التي حفرتها فيهما سنون لا تحصى من العمل الصعب، رأيت رحلتها الشقية مع سعد، مذ كان طفلاً، تعهدته هاتان الكفان الصلبتان مثلما تتعهد الأرض ساق العشبة الطرية، والآن انفتحتا فجأة فطار من بينهما العصفور الذي كان هناك عشرين سنة.

- لقد التحق بالفدائيين.

وكنت ما أزال أنظر إلى كفيها، منكفئتين هناك كشيئين مصابين بالخيبة، تصيحان من أعماقهما، تطاردان المهاجر إلى الخطر والمجهول..لماذا، يا الهي، يتعين على الأمهات أن يفقدن أبناءهن؟ لأول مرة أرى ذلك الشيء الذي يصدع القلب على مرمى كلمة واحدة مني، كأننا على مسرح إغريقي نعيش مشهداً من ذلك الحزن الذي لا يداوى.

قلت لها، محاولاً أن أضيعها وأضيّع نفسي:

- ماذا قال لك؟

- لم يقل شيئاً. فقط ذهب، وقال لي رفيقه في الصباح انه ذهب إليهم.

- ألم يذكر لك قبلاً انه سيذهب؟

- بلى. قال لي مرتين أو ثلاث مرات انه ينوي الالتحاق بهم.

- ولم تصدقي آنذاك؟

- بلى. صدقت. أنا أعرف سعد، وقد عرفت انه سيذهب.

- فلماذا، إذن، فوجئت؟

- أنا؟ لم أفاجأ. إنما أعلمك بالأمر. قلت لنفسي: قد تكون ترغب في معرفة أخبار سعد.

- ولست حزينة أو غاضبة؟

وتحركت كفاها المطويتان في حضنها، ورأيتهما جميلتين قويتين قادرتين دائماً على أن تصنعا شيئاً، وشككت إن كانتا حقاً تنوحان، وقالت:

- لا. قلت لجارتي هذا الصباح. أود لو عندي مثله عشرة. أنا متعبة يا ابن عمي. اهترأ عمري في ذلك المخيم. كل مساء أقول يا رب! وكل صباح أقول يا رب!. وها قد مرت عشرون سنة، وإذا لم يذهب سعد، فمن سيذهب؟

وقامت، ففاض في الغرفة مناخ من البساطة. بدت الأشياء أكثر إلفة، ورأت فيها بيوت الغبسية مرة أخرى، ولكنني لحقت بها إلى المطب، هناك ضحكت وهي تنظر إليَّ، وأخبرتني:

- " قلت للمرأة التي جلست إلى جانبي في الباص أن ولدي أضحى مقاتلاً (آنذاك بدا صوتها، بلا ريب، مختلفاً، ولذلك تذكرت الآن) قلت لها إنني احبه وسأشتاق له، ولكنه جاء ابن أمه..أتعتقد أنهم سيعطونه رشاشاً؟ "

- انهم يعطون رجالهم رشاشات دائماً.

- " والطعام ؟ "

- يأكلون كفاية ، وكذلك يعطونهم السجاير.

- " إن سعد لا يدخن، ولكنني متأكدة انه ستعلم ذلك هناك. يا نور عيني أمه! أود لو كان قريباً فأحمل له كل يوم طعامه من صنع يدي. "

- يأكل مثل رفاقه.

- " اسم الله عليهم جميعاً "

وصمتت لحظة، ثم دارت وواجهتني:

- " أتعتقد انه سينبسط لو ذهبت فزرته؟ أستطيع أن أوفر أجرة الطريق، وأذهب يومين إلى هناك "

وتذكرت شيئاً فأكملت:

- " أتدري؟ إن الأطفال ذل! لو لم يكن لدي هذان الطفلان للحقت به. لسكنت معه هناك. خيام؟ خيمة عن خيمة تفرق! لعشت معهم، طبخت لهم طعامهم. خدمتهم بعيني ولكن الأطفال ذل. "

قلت لها:

- لا ضرورة لأن تزوريه هناك، دعيه يتصرف وحده. إن الرجل الذي يلتحق بالفدائيين لا يحتاج، بعد، إلى رعاية أمه.

ونشفت كفيها بمريولها، وعميقاً في عينيها رأيت شيئاً يشبه الخيبة: تلك اللحظة المروعة التي تشعر فيها أم ما انه صار بالوسع الاستغناء عنها، أنها اطرحت في جهة ما كشيء استهلكه الاستعمال.

ودنت مني تقول:

- " أتعتقد ذلك حقاً؟ أتعتقد انه من غير المفيد أن أذهب إلى رئيسه هناك وأوصيه به؟ "

وتحيرت قليلاً، مستشعرة التمزق ينهكها، ثم سألت:

- " ..أم تراك تستطيع أنت أن توصى رئيسه به؟ تقول له: دير بالك على سعد، الله يخليلك ولادك "

وقلت لها:

كيف؟ إن أحداً لا يستطيع أن يوصي بالفدائي.

- "لماذا؟"

- لأنك أنت تقصدين أن يتدبر رئيسه الأمر بحيث لا يعرضه للخطر، أما سعد نفسه، ورفاقه، فيعتقدون أن أحسن توصيه بهم هي أن يرسلوا على الفور إلى الحرب.

ومرة أخرى جلست هناك، ولكنها بدت قوية اكثر مما رأيتها أبداً، وراقبت في عينيها وكفيها الخشنتين حيرة الأم وتمزقها وأخيراً قر رأيها:

- " أقول لك ،لتكن توصيتك به إلى رئيسه أن لا يغضبه. قل له: أم سعد تستحلفك بأمك أن تحقق لسعد ما يريد. انه شاب طيب، وحين يريد شيئاً لا يتحقق يصاب بحزن كبير. قل له، دخيلك، أن يحقق له ما يريد .. يريد أن يذهب إلى الحرب؟ لماذا لا يرسله؟"

-3-

المطر والرجُل والوَحل









كان صباح الثلاثاء ماطراً، ودخلت أم سعد وهي تقطر ماء. كان شعرها مبتلاً، وينقط على وجهها، فيبدو وكأنه تراب مسقي. تناولت معطفها، فيما وضعت المظلة الكالحة في الزاوية كما يوضع السيف المتعب، وقالت:

- هذا ليس مطراً، السماء، يا ابن عمي، تكب سطولاً. وابتسمت، ولكنني رأيت شريطاً من الوحل الأحمر يطوق طرف ردائها وهي تستدير. قلت لها:

- ماذا يا أم سعد؟ هل وقعت؟

وبسرعة التفتت إلي:

- وقعت؟ أم سعد لا تقع. لماذا؟

- ثمة وحل على تنورتك.

حكت الوحل بإصبعها الخشنة، ثم تركته لشأنه حين أحست أنه ما زال طرياً، وقالت:

- طاف المخيم في الليل..الله يقطع هالعيشة.

واهتز الجبل أمامي، ثمة دموع عميقة أخذت تشق طريقها إلى فوق،لقد رأيت أناساً كثيرين يبكون. رأيت دموعاً في عيون لا حصر لها، دموع الخيبة واليأس والسقوط. الحزن والمأساة والتصدع. رأيت دموع الوجد والتوسل. الرفض الكسيح والغضب المهيض الجناح. دموع الندم والتعب. الاشتياق والجوع والحب، ولكنها أبداً أبداً لم تكن مثل دموع أم سعد: لقد جاءت مثلما تتفجر الأرض بالنبع مثل أول الأبد، مثلما يستل السيف من غمده الصامت، ووقفت هناك على بعد لحظة واحدة من بريق العين الصامدة. عمري كله لم أرَ كيف يبكي الإنسان مثلما بكت أم سعد. تفجر البكاء من مسام جلدها كله. أخذت كفاها اليابستان تنشجان بصوت مسموع. كان شعرها يقطر دموعاً. شفتاها، عنقها، مزق ثوبها المنهك، جبهتها العالية، وتلك الشامة المعلقة على ذقنها كالراية، ولكن ليس عينيها.

- ولو يا أم سعد؟ أنت تبكين؟

- أنا لا أبكي يا ابن عمي. أود لو أستطيع. لقد بكينا كثيراً. كثيراً..كثيراً. أنت تعرف. بكينا أكثر مما طافت المياه في المخيم ليلة أمس، وذات صباح كان سعد قد ذهب. انه يحمل مرتينة الآن، وتشتي عليه ماء ورصاصاً. لا أحد يبكي الآن، ولكنني يا ابن عمي، صرت امرأة عجوزاً. صرت أتعب. أمضيت كل الليل غارقة في الوحل والماء. عشرون سنة…

وصل النشيج إلى حلقها فاعترض الكلمة. فرشت راحتيها أمامي وابتلعت الغصة التي كدت أسمع صوت سقوطها في صدرها المملئ بحطام العذاب والأسى..

- ماذا أقول يا ابن عمي؟ في الليل أحسست بأنني قريبة من النهاية..ما النفع؟ أريد أن أعيش حتى أراها. لا أريد أن أموت هنا، في الوحل ووسخ المطابخ..هل تفهم ذلك يا ابن عمي. أنت تعرف كيف تكتب الأشياء، أنا لم أذهب إلى مدرسة في عمري؟ ولكننا نحس مثل بعضنا. يا ربي! ماذا أقول؟ أمس في الليل فكرت بذلك جيداً، ووجدت الكلمات المناسبة، وفي الصباح نسيتها..طيب! أنت تكتب رأيك، أنا لا اعرف الكتابة، ولكنني أرسلت ابني إلى هناك..قلت بذلك ما تقوله أنت.أليس كذلك؟.

شعرت بذلك النصل الذي ينبثق فجأة من أحضان الكلمة البسيطة، وينقذف في صدورنا بسرعة الرصاصة وتصويب الحقيقة، ولوهلة رأيت شريط الوحل الداكن الذي كان يتدلى على طرف ثوبها شيئاً يشبه تاج الشوك.

- تعالي يا أم سعد. اجلسي هنا. أنت متعبة فقط، وربما كان شوقك لسعد وقلقك عليه هما اللذان يصدعان رأسك. وكذلك الطقس أنت تشعرين بالتعاسة لأنك تعرفين بأن المطر سيستمر طوال النهار، وستعملين في جرف الوحل طوال الليل. تعالي اجلسي، لا تسمحي لذلك كله أن يهدمك."

جلست، وتنفست الصعداء مثلما يفعل الإنسان حين يريد أن يهيل على الغيوم السوداء في صدره هواء نقياً:

- " لا، يا ابن عمي. أتعرف ماذا كان يفعل سعد حين يطوف المخيم؟ كان يقف ويتفرج على الرجال وهم يجرفون الوحل، ثم يقول لهم: " ذات ليلة سيدفنكم هذا الوحل". ومرة قال له أبوه: لماذا تقول ذلك؟ ماذا تريدنا أن نفعل؟ هل تعتقد أنه يوجد مزراب في السماء وأن علينا أن نسده؟ وضحكنا كلنا، ولكنني نظرت إليه رأيت في وجهه شيئاً أرعبني، كان منصرفاً إلى التفكير وكأن الفكرة راقت له، كأنه سيذهب في اليوم التالي ليسد ذلك المزراب.

- ثم ذهب؟.

- ثم ذهب.

ونظرت إلى مباشرة..كان ثمة ارتداد لا يصدق. تراجع طوفان الدموع الذي كانت تسبح فيه و أشرقت كما يضاء الشيء من الداخل.

- أتعرف، ي ابن عمي؟ أنا لست قلقة عليه. لا. هذا ليس صحيحاً. قلقة. قلقة وغير قلقة. ربما كان لديك، أنت الذي ذهبت إلى المدرسة، اسم لهذه الحالة..فأمس فقط جاء رفيقه وقال لي انه بخير.

- جاء عندك؟

- لم أر وجهه. كان الليل ثقيلاً، وكنا نشتغل بالوحل والماء حين جاء ووقف بجانبي. كان عملاقاً، يخزي العين العين، وقال لي: " سعد يسلم عليك. انه بخير. وسيهديك غداً سيارة " ثم ذهب.

- يهديك سيارة؟

- أجل. ألا تعرف؟ يعني انه سينسف سيارة.

- وهل فعل؟

- ماذا؟ سعد لا يقول شيئاً ثم لا يفعله. أنا اعرفه جيداً. وفي الخارج، شقت الشمس طريقها وسط الغيوم الداكنة مثلما يشق المحراث ثلماً في الأرض، وقذفت حزمة دفء في الغرفة. أكانت الصدفة أن سقطت الشمس على وجهها وهي جالسة هناك؟ لقد ابتسمت، وبدت قوية وشابة كما كانت تبدو دائماً.

لقد انتظرت حتى المساء لاسمع نبأ سقوط سيارة إسرائيلية في كمين مقاتلين. وارتقبت بلهفة أن أسمع تلك التتمة الرائعة للخبر: " وعاد الفدائيون إلى قواعدهم سالمين ". لست ادري لماذا مضيت من توي إلى المخيم، وفي مستنقع الوحل شهدت أم سعد واقفة مثل شارة الضوء في بحر لا نهاية له من الظلام، وقد رأتني قادماً، فلوحت بيديها، كان صوتها أعلى من صوت الرعد المدوي في سقف السماء، وانهمر الصدى من كل صوب كالشلال:

- ارأيت ؟ قلت لك إن سعد سيهدي أمه سيارة.

وكان المطر ينهمر، ولم يكن رذاذه الصاخب في تلك اللحظة إلا تطاير الماء أمام زورق صامد يشق طريقه كالقدر

4-

في قَلبِ الِدّرع









كانت الضحكة تملأ وجهها كما لم أرها أبدأً، ووضعت أم سعد أشياءها الفقيرة في الزاوية، وقالت:

- جاء سعد.

وحومت في الغرفة فيما كان الدوي في الخارج يستقبل مجيء العيد، وجلست، واضعة كعادتها كفيها في حضنها مطويتين إلى بعضهما على تلك الصورة الفريدة التي تشبه عناقاً حميماً، وأمامي برقت عينا سعد وراء مدفعه القصير، قادماً وهو مضرج بالتراب من وراء الليالي الطويلة التي غابها، وسألتها:

- لقد غاب سنة.

- كلا. تسعة شهور وأسبوعان، جاء أمس.

- سيظل.

- لا. قطبوا له ساعده، كانت رصاصة قد..

وشمرت عن كمها، وأرتني كيف شقت الرصاصة لحم الساعد من الرسغ إلى الكوع، وفي ساعدها الأسمر القوي الذي يشبه لونه لون الأرض، رأيت كيف للأمهات أن ينجبن المقاتلين، وخيل الي لوهلة إنني أرى أثراً لجرح عتيق، ملتحم ولكنه كامن، يمتد من رسغ أم سعد إلى كوعها، وقلت:

- أنت أيضاً.

- أنا؟ آه، ذلك جرح عتيق، من أيام فلسطين..سرق الواوي دجاجة فسحبته من تحت سلك شائك وطققت له رقبته، جرحني السلك يومها.

- وسعد؟

- يقول انه سيرجع حين يلتئم الجرح.

ولاحظت، لنفسي، كيف قالت أنه " سيرجع " ولم تقل انه " سيذهب "، ولكنني لم أفكر كثيراً، كانت أم سعد علمتني طويلاً كيف يجترح المنفي مفرداته وكيف ينزلها في حياته كما تنزل شفرة المحراث في الأرض، وقالت:

- " أسم الله عليه، انه يحمل ساعده كما يحمل النيشان، قال انه صار قائد فرقته، وانهم يسألونه دائماً: لماذا، يا سعد توسع خطواتك؟ انه في الأمام، وقلت له: أبن أبوك."

- اشتاق لك كثيراً؟

- " من؟ سعد؟ يخزي العين. عبطني لحظة واحدة وتركني، فقلت له: ولو يا سعد؟ إلا تعبط أمك وتبوسها بعد هذا الغياب؟ أتعرف ماذا قال؟ قال: ولكني رأيتك هناك. وضحك ".

- كيف رآك هناك؟

- قال انه كان في فلسطين. غرب كثيراً، وظل يمشي جمعة أو أكثر مع أربعة من رفقائه. قال انه قرب كثيراً من البلد، ثم اختبأوا في الزرع، لم أفهم لماذا، كان يحكي وكنت انظر في عينيه، يا عيني عليه، يا عيني عليهم كلهم، كان يحكي وكنت أقول لنفسي: كان هناك، فلم افهم لماذا اختبأوا في الزرع..قال انهم..

***



جاعوا، وأخذت السماء تزخ. حين يسقى فولاذ الرشاشات تضحي له رائحة الخبز، هكذا قال سعد.

كانوا قد حوصروا، إلا انهم احتفظوا بمكمنهم هادئين، وقدروا أن الحصار سينفك بعد ساعات. امتد الحصار أياما حتى أنهكهم الجوع، وأخيراً وصلوا إلى باب خيارين: أن يظلوا كامنين، طاوين أنفسهم على عذاب أخذ يشتد ولا يعرفون متى يمضي، أو أن يتركوا لاحدهم أن يجرب مغامرة الذهاب إلى القرية القريبة.

كان الخيار صعباً، قال سعد، وقرروا الانتظار حتى المساء قبل أن يعقدوا العزم على قرار.

وعند الظهر قال سعد لرفاقه: ها قد جاءت أمي!

ونظر الرجال إلى رأس الطريق المنحدر كالثعبان من التلة، وخناك رأوا امرأة في ثوبها الريفي الطويل الأسود تنزل قادمة صوبهم. تحمل على رأسها بقجة، وفي يدها رزمة من العروق الخضراء.

وبدت لهم عجوزاً، في عمر أم سعد وفي قامتها العالية الصلبة، ومن خلال الصمت المخيم كصمت الموت، كان صليل الحصى تحت قدميها العاريتين يسمع كأنه الهمس.

وقال أحد الأربعة:

- أمك؟ أمك في المخيم يا أخوت..ضربك الجوع بالعمى!

وقال سعد:

- انتم لا تعرفون أمي..إنها تلحق بي دائماً، وهذه أمي.

وصارت المرأة في محاذاة مكمنهم، وباتوا يسمعون حفيف ثوبها الطويل المطرز بالخيوط الحمراء، ونظر إليها سعد، من خلال أشجار العليق التي تسد مكمنه، وفجأة ناداها:

- " يما يما ".

- وتوقفت المرأة لحظة، وأدارت بصرها في الحقول الصامتة حولها، وظلوا يراقبونها صامتين فيما أمسك أحدهم بذراع سعد وضغط عليها محذراً، لحظة، لحظة أخرى، احتارت المرأة، ثم عادت تسير.

خطوتان، ثلاث خطوات، واعاد سعد نداءه:

- "يا يما ، ردي علي! "

مرة أخرى وقفت المرأة، ونظرت حولها محتارة، وحين لم ترَ شيئاً أنزلت الصرة عن رأسها ووضعتها على الأرض وأراحت فوقها رزمة العروق الخضراء، وحطت كفيها على خاصرتيها وأنشأت، بعينيها، تنقب في دغول العليق حولها.

وقال سعد:

- " أنا هون يما "!

والتقطت العجوز مصدر الصوت، فتأملته برهة إلا أنها لم ترَ شيئاً، وأخيراً انحنت فلمت قضيباً مشقت عنه أوراقه وخطت نحوهم خطوتين، ثم وقفت ونادت:

- "لماذا لا تخرج وتريني نفسك؟ "

ونظر الرجال نحو سعد الذي تردد برهة، ثم علق رشاشة على كتفه، وسار بهدوء نحو المرأة:

- " أنا سعد ، يا يما ، جوعان "!

وسقط القضيب من يد الفلاحة العجوز وهي تحدق الى الشاب الذي ولده الدغل الشائك ينحدر نحوها بالكاكي وبالرشاش على كتفه، أما رفاقه فقد هيأوا بنادقهم، فيما أخذ سعد يقترب من العجوز.

وقالت المرأة:

- " يجوع عدوينك يا ابني..تعال لعند أمك "

وأقترب سعد أكثر، كانت خطواته مطمئنة وكان رشاشة ما زال يتأرجخ على كتفه من غير اكتراث، وحين صار على بعد خطوة منها فتحت ذراعين واحتضنته: " يا حبيبي..يا ابني..الله يحميك".

وقال سعد:

- " يا يما، بدنا أكل "

وانحنت المرأة فناولته الصره، وحين أخذها رأى عينيها تدمعان، فقال لها:

- " حلفتك بالنبي لا تبكي يا يما !"

قالت العجوز:

- " معك بقية الأولاد؟ أطعمهم. في المغرب سأمرق من هنا واضع الزوادة على الطريق..الله يحميكم يا أولادي "

وعاد سعد بالزوادة، ولم يلحظ رفاقه أية دهشة في ملامحه. أكلوا، وقال أحد رفاقه:

- " لنغير مكاننا، فقد تعود بالعسكر "

إلا أن سعد لم يرد، وبعد قليل قال لهم:

- إنها أمي، وقد رأيتم ذلك بأنفسكم، فكيف تعود بالعسكر؟ "

وفي المساء جاءت العجوز فوضعت الزوادة، ووضعتها هناك فجر اليوم التالي، وفي كل مرة كان سعد يناديها من وراء الدغل:

- " يسلموا ايديكي يما "

ويسمعونها تقول:

- " الله يحميك يا ابني "

***



قالت أم سعد: تلك المرأة العجوز ظلت أيام خمسة تطعمهم..قال لي سعد إنها لم تتأخر ساعة واحدة، حتى انفك الحصار، جاءت فوضعت الزوادة ونادت: " العسكر راحوا..الله يوفقكم "..

وعادت أم سعد فطوت راحتيها على حضنها كما يتعانق مخلوقان لا فصام بينهما، وقالت: سعد يقول انه رآني هناك، وانه لولا أن أطعمته لمات جوعاً، ولولا أن دعوت له لقتلته الرصاصة التي شطفت لحم ساعده.

وقامت، ففاحت في الغرفة رائحة الريف الذي كمن فيه سعد، محاطاً بذلك الدرع الذي لا يصدق، وقالت:

- " سيرجع بعد أن يلحم جرحه، قال لي ألا أشتاق له كثيراً فهو يراني هناك دائماً..ماذا تريدني أن أقول له؟ قلت له: الله يكون معك ويحميك."

واستدارت، خطوة، خطوتين، وفجأة سمعت نفسي أنادي:

- " يا يما "

فوقفت.



-5-

الذينَ هَرَبوا والذينَ تقَدمُوا







فرشت أم سعد راحتيها أمامي، ورأيت بين شقوقهما التي أهترأت مع التعب والعذاب، آثاراً حمراء لخيوط من الجروح لم تلتئم تماماً بعد، فسألتها:

- ما الذي حدث يا أم سعد؟ هل اعتركت مع شجرة عليق؟

وعادت تدفع أمام وجهي راحتيها اللتين تشبهان جلد أرض يعذبها العطش، ثم قالت:

- لا، يا ابن عمي، لقد أمضيت ليلة أمس الأول ألم عن الأرض قطعاً حادة من المعدن..

- ليلة أمس الأول؟



***



..كانت أم سعد تعشي ابنها الصغير حين سمعت دوي الانفجار الأول. مخيم البرج لا يبعد كثيراً عن المطار، ولأول وهلة قالت لنفسها: هناك من بكر بالاحتفال بعيد رأس السنة. ثم أصاخت السمع، فقد قالت لها أحاسيسها أن الجو يحب بخطر أشد.

كان نهارها صحراء قاحلة من التعب المضني. منذ أبكر الصبح وهي تعتصر الملابس والمماسح، تنظف الشبابيك وتجلو الأرض وتنفض السجاجيد( في بيوت الآخرين، طبعاً ، فبيتها في المخيم غرفة مشطورة من النصف بحائط من التنك). كانت متعبة، وقد أخذت تعشي ابنها الصغير لتضعه في فراشه وتنام، حين سمعت دوي الانفجار الأول.

ولم تتردد لحظة حين سمعت الانفجار الثاني، فتركت صغيرها وعادت إلى الخارج، وفوق كثبان الرمل الأحمر مضت نحو الطريق، وهناك استطاعت أن ترى أذريعة النار تغوص في غيوم الدخان الماضي إلى العتمة.

وقفت أم سعد هناك حائرة، كانت تسمع الدوي وتسمع أزيزاً غامضاً، ولكنها لم تكن تعلم بالضبط ماذا يتعين عليها أن تفعل.

***



- هل كنت وحدك هناك؟

- وحدي؟ ماذا تعتقد يا ابن العم؟ وحدي؟ كنا كالنمل. كل نساء المخيم وأولاده وشبابه خرجوا كأنهم اتفقوا على ذلك سلفاً، ووقفنا جميعاً هناك. لا نعرف ماذا يتعين علينا أن نفعل. وفي الأفق كنا نرى الحرائق، ثم سمعنا محرك طائرة يجرش عن قرب، فرفعنا رؤوسنا إلى فوق.

***



جاءت الطائرة، مطلية باللون الأسود، وحلقت على علو خفيض، وأخذت تزح رصاصها على الشارع، وسمعت أم سعد صوتاً معدنياً كالرنين يملأ الطريق، وفي اللحظة التالية تقدمت نحو الإسفلت، ورفعت بين أصابعها قطعة حديد ذات أربعة رؤوس مسننة.

قالت أم سعد لرفيقاتها:

- هذه الحدائد تفرقع دواليب السيارات

ودورتها بين أصابعها، ثم قالت:

- يا صبايا، لنلمها ونقذف بها إلى الرمل..

واندفعت النساء، ومن ثم اندفع الأولاد، إلى الطريق المظلم وأخذوا يجمعون قطع الحديد بأيديهم العارية ويقذفون بها إلى الرمل، وبسرعة انتشروا، كالأشباح، على طول الطريق، ينظفونه من العراقيل، وفي كل مرة كانت الطائرة تعود كانوا يقذفون بأنفسهم إلى الرمل، ثم يعودون إلى الطريق مع ذهابها.



***



قالت أم سعد:

- كانت الطائرة تحلق على علو منخفض جداً، تكاد تمس رؤوسنا، وفي مرة كانت قريبة منا إلى حد اعتزمت أن اقذفها بحجر، ولكنها مضت مسرعة، بعد أن رمت حفنة جديدة من تلك الحدائد الشيطانية، ولكننا أسرعنا فلممناها.

- لقد نظفتم الطريق إذن؟

- في اللحظة ذاتها. كنا كالعفاريت، ولكن السيارات التي تركها أصحابها مع الغارة في منتصف الطريق كانت في وضع غير مناسب، وقد حاول

Eihab
عضو فضي
عضو فضي

عدد المساهمات : 452
التقييم : 0
تاريخ التسجيل : 07/08/2010
العمر : 44
الموقع : e_jarbou@yahoo.com

بطاقة الشخصية
اليوم:

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

أم سَعد Empty رد: أم سَعد

مُساهمة من طرف Bashar 10/8/2010, 9:58 pm

قصة جميلة و واقعية. شكرا لك اخي ايهاب لمشاركتنا اياها.

و دمت بسلام
Bashar
Bashar
Admin
Admin

عدد المساهمات : 664
التقييم : 2
تاريخ التسجيل : 10/04/2010
العمر : 47
الموقع : www.baw7.rigala.net

بطاقة الشخصية
اليوم:

http://www.baw7.rigala.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

أم سَعد Empty رد: أم سَعد

مُساهمة من طرف Eihab 10/13/2010, 11:10 pm

اهلا بك اخ بشار
شكرا لمرورك الكريم

Eihab
عضو فضي
عضو فضي

عدد المساهمات : 452
التقييم : 0
تاريخ التسجيل : 07/08/2010
العمر : 44
الموقع : e_jarbou@yahoo.com

بطاقة الشخصية
اليوم:

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة


 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى